الجمعة، 9 سبتمبر 2016

هداية التدبر للشيخ علي بن محمد الدهامي



الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد فإن من رحمة الله بعباده أن أنزل إليهم القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وحفظه على تعاقب الدهور والأزمان فلم يزد في كلمه وحرفه ، وتحدى كل أحد أن يأتي بمثله في بلاغته وصدقه وعدله ولو تظاهرعلى ذلك  الثقلان من خلقه فكتاب الله كما وصفه الله في قوله ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ) يونس 57
ولذا فإن المؤمن لا تقف همته عند تلاوة كتاب الله فحسب بل هو يقرأ كتاب الله ويتدبر ما يقرأ حيث علم ذم الله لأهل الكتاب السابقين حين قال عنهم ( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ
الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ) البقرة 78
فذمهم لأنهم يكتفون بتلاوة كتبهم دون تدبرها والعمل لما فيها ولذا كان تحذير الله عز وجل من أن نسلك سبيلهم أو نتشبه بالمشركين الذين لا يتدبرون آياته حتى كأن على قلوبهم الأقفال المانعة من دخول الموعظة إليها (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) محمد 24
فهذه نزلت في المشركين وقوله جل وعلا (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) النساء 82
نزلت في المنافقين وقد جاء الذم للمنافقين لتغافلهم وانصرافهم عن تدبر ما أنزل الله في قوله عنهم (وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) محمد 16
فبين حال المنافقين وذمهم وبين حال المؤمنين ووصفهم بالعلم حينما ألقوا أسماعهم وفهموا عن الله مراده ثم بين جائزتهم (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) محمد 17
قال ابن تيمية رحمه الله : من تدبر القرآن طالبا الهدى منه تبين له طريق الحق فالتدبر لكتاب الله هداية ومن أعظم ما يفتح الله لعبده لأن فيه الحياة الحقيقة وإنما أنزل الله القرآن لأجل ذلك كما في قوله تعالى (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) ص 29
قال ابن القيم رحمه الله : فليس شيء  أنفع للعبد في معاشه ومعاده وأقرب إلى نجاته من تدبر القرآن وإطالة التأمل فيه وجمع الفكر في معاني آياته .
قال الحسن رحمه الله نزل القرآن ليتدبر ويعمل به فاتخذوه عملا .‏
وقال وهيب بن الورد : نظرنا في هذه الأحاديث والمواعظ فلم نجد شيئا أرق للقلوب ولا أشد استجلابا للحزن من قراءة القرآن وتفهمه وتدبره.
وقال إبراهيم الخواص : دواء القلوب خمسة : قراءة القرآن بالتدبر ...... وذكر بقـيتها وقال ابن مسعود رضي الله عنه : لاتهذّوا القرآن هذّ الشعر ولا تنثروه نثر الدقل ، قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ولا يكن هم احد آخر السورة .
‏وقال الآجري رحمه الله : القليل من الدرس للقرآن مع التفكر فيه وتدبره أحب إلي من قراءة الكثير من القرآن بغير تدبر ولا تفكر فيه وظاهر القرآن يدل على ذلك والسنة وقول أئمة المسلمين .
عن أبي حمزة قال : قلت لابن عباس رضي الله عنهما : إني سريع القراءة ، وإني أقرأ القرآن في ثلاث فقال عبد الله : لأن أقرأ البقرة في  ليلة فأدبرها وأرتلها أحب إلي من أن
أقرأ كما تقول .
وعن مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : تعلم عمر البقرة في اثني عشرة سنة قلما ختمها نحر جذورا. وكذا ابنه عبد الله مكث على سورة البقرة ثماني سنين يتعلمها كما في الموطأ.
قال ابن القيم رحمه الله : فلا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر ولو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها ، فإذا قرأ بتفكر حتى مر بآية وهو محتاج إليها في شفاء قلبه كررها ولو مائة مرة ولو ليلة  فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم  وأنفع للقلب وادعى إلى حصول الإيمان وذوق حلاوة القران وهذه كانت عادة السلف يردد أحدهم الآية إلى الصباح أ . هـ
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قام ليلة بآية يرددها وهي (إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ۖ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)المائدة ٨١ ا
‏وقام تميم الداري ليلة بهذه الآية (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ۚ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) الجاثية 21
وعن عبادة بن حمزة رحمه الله قال : دخلت على أسماء رضي الله عنها وهي تقرأ (فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ) الطور 27
فوقفت عندها فجعلت تعيدها وتدعو فطال علي ذلك فذهبت إلى السوق فقضيت حاجتي ثم رجعت وهي تعيدها وتدعو .
وقام سعيد بن جبير رحمه الله ليلة يردد قوله تعالى (وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) يس 59
وقام الحسن البصري رحمه الله ليلة يردد قوله تعالى (وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) النحل 18
حتى أصبح فقيل له في ذلك فقال : إن فيها معتبرا مانرفع طرفا ولانرده الا وقع على نعمة , وما لا نعلمه من نعم الله أكثر .
قال بعضهم : إني لأفتتح السورة فيوقفني بعض ما أشهد فيها عن الفراغ منها حتى الفجر .
وقال آخر : آية لا أتفهمها ولا يكون قلبي فيها لا أعد لها ثواباً .
قال النووي رحمه الله : وقد بات جماعة من السلف يتلو الواحد منهم الآية الواحدة ليلة كاملة أو معظمها يتدبرها عند القراءة .
قال محمد بن كعب رحمه الله تعالى : لأن أقرأ (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا) و (الْقَارِعَةُ) أرددها وأتفكر فيها أحب من أبيت أهذ القرآن.
فليكن لنا ورد دائم من القرآن وليكن لنا مع كتاب الله وقفات تحيا بها القلوب وتنار بها الدروب ولنحذر من الغفلة عن تدبر كتاب الله فإن ذلك نوع من أنواع هجرانه فإن الله سبحانه وتعالى يقول : (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) الفرقان 30
قال ابن كثير رحمه الله : وترك تدبره من هجرانه .
وقال ابن القيم رحمه الله وهو يذكر أنواع هجر القرآن : النوع الرابع : هجر تدبره وتفهمه ومعرفة ما أردا المتكلم به منه .
فنسأل الله أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء أحزاننا وذهاب همومنا وأن يجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهله وخاصته إنه جواد كريم .

والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

0 التعليقات :

إرسال تعليق

 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | Blogger Templates | تعريب وتطوير : قوالب بلوجر معربة